سورة الفرقان - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


قوله تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بُروجاً وجعل فيها سِراجاً} قد شرحناه في [الحجر: 16]. والمراد بالسراج: الشمس. وقرأ حمزة، والكسائي: {سُرُجاً} بضم السين والراء وإِسقاط الألف. قال الزجاج: أراد: الشمس والكواكب العظام؛ ويجوز {سُرْجاً} بتسكين الراء، مثل رُسْل ورُسُل. قال الماوردي: لما اقترن بضوء الشمس وهج حَرِّها، جعلها لأجل الحرارة سراجاً، ولمّا عدم ذلك في القمر جعله نوراً.
قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَةً} فيه قولان:
أحدهما: أن كل واحد منهما يخالف الآخر في اللون، فهذا أبيض، وهذا أسود، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة.
والثاني: أن كل واحد منهما يَخْلُفُ صاحبه، رواه عمرو بن قيس الملائي عن مجاهد، وبه قال ابن زيد وأهل اللغة، وأنشدوا قول زهير:
بِهَا العِينُ والآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً *** وأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
أي: إِذا ذهبت طائفة جاءت طائفة.
قوله تعالى: {لِمَن أراد أن يَذَّكَّر} أي: يتَّعظ ويعتبر باختلافهما. وقرأ حمزة: {يَذْكُرَ} خفيفة الذال مضمومة الكاف، وهي في معنى: يتذكَّر، {أو أراد} شُكْر الله تعالى فيهما.


قوله تعالى: {وعبادُ الرَّحمن الذين يَمْشُون} وقرأ عليّ، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن السميفع: {يُمَشَّون} برفع الياء وفتح الميم والشين وبالتشديد. وقال ابن قتيبة: إِنما نسبهم إِليه لاصطفائه إِياهم، كقوله: {ناقةُ الله} [الأعراف: 73]، ومعنى {هَوْناً}: مشياً رويداً. ومنه يقال: أَحْبِبْ حبيبك هَوْناً ما. وقال مجاهد: يمشون بالوقار والسكينة. {وإِذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} أي: سَداداً. وقال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جهل عليهم حَلُموا. وقال مقاتل بن حيّان: {قالوا سلاماً} أي: قولاً يسْلَمون فيه من الإِثم. وهذه الآية محكمة عند الأكثرين. وزعم قوم: أن المراد بها أنهم يقولون للكفار: ليس بيننا وبينكم غير السلام، ثم نُسخت بآية السيف.
قوله تعالى: {والذين يَبيتون لربِّهم} قال الزجاج: كل من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم؛ يقال: بات فلان قلِقاً، إِنما المبيت إِدراك الليل.
قوله تعالى: {كان غراماً} فيه خمسة أقوال متقارب معانيها.
أحدها: دائماً، رواه أبو سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: موجِعاً، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: مُلِحّاً، قاله ابن السائب؛ وقال ابن جريج: لا يفارق.
والرابع: هلاكاً، قاله أبو عبيدة.
والخامس: أن الغرام في اللغة: أشدُّ العذاب، قال الشاعر:
وَيَوْمَ النِّسار وَيَوْمَ الجِفا *** رِكانَا عذاباً وكانَا غَرَاماً
قاله الزجاج.
قوله تعالى: {ساءت مُسْتَقَرّاً} أي: بئس موضع الاستقرار وموضع الإِقامة هي.
قوله تعالى: {والذين إِذا أنفقوا لم يُسْرِفوا ولم يقتروا} وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {يَقْتِروا} مفتوحة الياء مكسورة التاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {يَقْتُروا} بفتح الياء وضم التاء. وقرأ نافع، وابن عامر: {يُقْتِروا} بضم الياء وكسر التاء.
وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: أن الإِسراف: مجاوزة الحدِّ في النفقة، والإِقتار: التقصير عمّا لا بُدَّ منه، ويدل على هذا قولُ عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سَرَفاً أن يأكل كلَّ ما اشتهى.
والثاني: أنَّ الإِسراف: الإِنفاق في معصية الله وإِن قَلَّ، والإِقتار: منع حق الله تعالى، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج في آخرين.
قوله تعالى: {وكان} يعني الإِنفاق {بين ذلك} أي: بين الإِسراف والإِقتار {قَوَاماً} أي: عَدْلاً؛ قال ثعلب: القَوام، بفتح القاف: الاستقامة والعَدْل، وبكسرها: ما يدوم عليه الأمر ويستقرّ.


قوله تعالى: {والذين لا يَدْعُون مع الله إِلهاً آخر} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.
أحدها: ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود، قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الذَّنْب أعظم؟ قال: «أن تَجْعَلَ لله نِدّاً وهو خَلَقَكَ»، قلتُ: ثم أيّ؟ قال: «أن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مخافة أن يَطْعَمَ معك»، قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تُزانيَ حليلة جارك»، فأنزل الله تعالى تصديقها {والذين لا يَدْعُون مع الله إِلهاً آخر...} الآية.
والثاني: أن ناساً من أهل الشرك قَتلوا فأكثروا وزنَوا فأكثروا، ثم أتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إِن الذي تقولُ وتدعو إِليه لَحَسَنٌ، لو تُخبرنا أن لِمَا عَمِلنا كفارة، فنزلت هذه الآية، إِلى قوله: {غفوراً رحيماً}، أخرجه مسلم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: «أن وحشيّاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أتيتك مستجيراً فأجِرني حتَى أسمع كلام الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كنت أُحِبُّ أن أراك على غير جوار، فأما إِذا أتيتَني مستجيراً فأنت في جواري حتى تَسمع كلام الله، قال: فإنِّي أشركت بالله وقتلتُ النَّفْس التي حرَّم الله وزنيتُ، فهل يقبل الله مني توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية، فتلاها عليه، فقال: أرى شرطاً، فلعلِّي لا أعمل صالحاً، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت {إن الله لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ به ويَغْفِرُ ما دون ذلك لمن شاء} [النساء: 48]، فدعاه فتلاها عليه، فقال: ولعلِّي ممن لا يشاء الله، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت {يا عباديَ الذين أَسْرَفوا على أنفُسهم لا تَقْنَطوا من رحمة الله...} الآية [الزُّمَر: 53]، فقال: نعم، الآن لا أرى شرطاً، فأسلم»، رواه عطاء عن ابن عباس؛ وهذا وحشيّ هو قاتل حمزة؛ وفي هذا الحديث المذكور عنه نظر، وهو بعيد الصحّة، والمحفوظ في إِسلامه غير هذا، وأنه قَدِم مع رسل الطائف فأسلم من غير اشتراط. وقوله: {يَدْعُون} معناه: يَعْبُدون. وقد سبق بيان قتل النفس بالحق في [الأنعام: 151].
قوله تعالى: {يَلْقَ أثَاماً} وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل: {يُلَقَّ} برفع الياء وفتح اللام وتشديد القاف مفتوحة. قال ابن عباس: يَلْقَ جزاءً. وقال مجاهد، وعكرمة: وهو وادٍ في جهنم. وقال ابن قتيبة: يَلْقَ عقوبة، وأنشد:
جَزَى اللّهُ ابنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَى *** عُقُوقاً والعُقُوق لَهُ أثام
قال الزجاج: وقوله: {يَلْقَ أثاماً} جزماً على الجزاء. قال أبو عمرو الشيباني: يقال: قد لقيَ أثام ذلك، أي: جزاء ذلك، وسيبويه والخليل يذهبان إِلى أن معناه: يلقى جزاء الأثام، قال سيبويه: وإِنما جزم {يُضَاعَفْ له العذابُ} لأن مضاعفة العذاب لُقِيُّ الآثام، فلذلك جزمت، كما قال الشاعر:
مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنا في دِيارِنا *** تَجِدْ حَطَباً جزْلاً وناراً تَأجَّجَا
لأن الإِتيان هو الإِلمام، فجزم تُلْمِمْ لانه بمعنى تأتي. وقرأ الحسن: {يُضَعَّفْ}، وهو جيِّد بالغ؛ تقول: ضاعفتُ الشيءَ وضَعَّفْتُه. وقرأ عاصم: {يُضَاعَفُ} بالرفع على تفسير {يَلْقَ أثاماً} كأنّ قائلاً قال: ما لُقيُّ الأثام؟ فقيل: يُضاعَف للآثم العذاب. وقرأ أبو المتوكل، وقتادة، وأبو حيوة: {يُضْعَف} برفع الياء وسكون الضاد وفتح العين خفيفة من غير ألف. وقرأ أبو حصين الأسدي، والعمري عن أبي جعفر مثله، إِلا أن العين مكسورة، و{العذابَ} بالنصب.
قوله تعالى: {ويَخْلُدْ} وقرأ أبو حيوة، وقتادة، والأعمش: {ويُخْلَد} برفع الياء وسكون الخاء وفتح اللام مخففة. وقرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وأبو المتوكل مثله، إِلا أنهم شدَّدوا اللام.
فصل:
ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية قولان:
أحدهما: أنها منسوخة، وفي ناسخها ثلاثة أقوال. أحدها: أنه قوله تعالى: {ومن يَقْتُلْ مؤمِناً متعمِّداً فجزاؤه جهنَّمُ} [النساء93]، قاله ابن عباس. وكان يقول: هذه مكية، والتي في النساء مدنية. والثاني: أنها نسخت بقوله: {إِن الله لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ به ويغفر ما دون ذلك...} الآية [النساء: 48]. والثالث: أن الأولى نُسخت بالثانية، وهي قوله: {إِلا من تاب}.
والقول الثاني: أنها محكمة؛ والخلود إِنما كان لانضمام الشرك إِلى القتل والزنا. وفساد القول الأول ظاهر، لأن القتل لا يوجب تخليداً عند الأكثرين؛ وقد بيَّنَّاه في سورة [النساء: 93]، والشِّرك لا يُغْفَر إِذا مات المشرك عليه، والاستثناء ليس بنسخ.
قوله تعالى: {إِلا من تاب} قال ابن عباس: قرأنا على عهد رسول الله سنتين: {والذين لا يَدْعُون مع الله إِلهاً آخر} ثم نزلت {إِلا من تاب} فما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء فرحه بها، وب {إِنّا فتحنا لكَ فتحاً مبيناً} [الفتح1].
قوله تعالى: {فأولئك يُبَدِلُ الله سيِّئاتهم حسنات} اختلفوا في كيفية هذا التبديل وفي زمان كونه، فقال ابن عباس: يبدِّل الله شركهم إِيماناً، وقتلهم إِمساكاً، وزناهم إِحصاناً؛ وهذا يدل: على أنه يكون في الدنيا، وممن ذهب إلى هذا المعنى سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد.
والثاني: أن هذا يكون في الآخرة، قاله سلمان رضي الله عنه، وسعيد بن المسيّب، وعليّ بن الحسين. وقال عمرو بن ميمون: يبدِّل الله سيئات المؤمن إِذا غفرها له حسنات، حتى إِن العبد يتمنَّى أن تكون سيئاته أكثر مما هي. وعن الحسن كالقولين. وروي عن الحسن أنه قال: وَدَّ قومٌ يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا استكثروا من الذُّنوب؛ فقيل: من هم؟ قال: هم الذين قال الله تعالى فيهم: {فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات}، ويؤكِّد هذا القولَ حديثُ أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صِغار ذنوبه، فتُعْرَض عليه صِغار ذنوبه وتنحّى عنه كبارها، فيقال: عملتَ يوم كذا، كذا وكذا، وهو مُقِرّ لا يُنْكِر، وهو مُشْفِق من الكبار، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة» أخرجه مسلم في صحيحه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7